تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 461 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 461

461 : تفسير الصفحة رقم 461 من القرآن الكريم

** اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم. قال الله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} قال مجاهد يعني القرآن كله متشابه مثاني, وقال قتادة: الاَية تشبه الاَية والحرف يشبه الحرف وقال الضحاك: مثاني ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى وقال عكرمة والحسن: ثنى الله فيه القضاء زاد الحسن تكون السورة فيها آية وفي السورة الأخرى آية تشبهها, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: مثاني مردد ردد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة. وقال سعيد بن جبير عن عباس رضي الله عنهما: مثاني قال القرآن يشبه بعضه بعضاً ويرد بعضه على بعض, وقال بعض العلماء ويروى عن سفيان بن عيينة معنى قوله تعالى: {متشابهاً مثاني} أنّ سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد فهذان من المتشابه وتارة تكون بذكر الشيء وضده كذكر المؤمنين ثم الكافرين وكصفة الجنة ثم صفة النار وما أشبه هذا فهذا من المثاني كقوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} وكقوله عز وجل: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ـ إلى أن قال ـ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} {هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ـ إلى أن قال ـ هذا وإن للطاغين لشر مآب} ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني أي في معنيين اثنين وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضاً فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} ذاك معنى آخر. وقوله تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} أي هذه صفة الأبرار, عند سماع كلام الجبار, المهيمن العزيز الغفار, لما يفهمون من الوعد والوعيد, والتخويف والتهديد تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف {ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه (أحدها) أن سماع هؤلاء هو تلاوة الاَيات وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات (الثاني) أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم كما قال تبارك وتعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} وقال تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميان} أي لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
(الثالث) أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. ولم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون بما ليس فيهم بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والاَخرة. قال عبد الرزاق حدثنا معمر قال تلا قتادة رحمه الله {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} قال هذا نعت أولياء الله, نعتهم الله عز وجل بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع, وهذا من الشيطان.
وقال السدي {ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} أي إلى وعد الله, وقوله: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده} أي هذه صفة من هداه الله ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله {ومن يضلل الله فما له من هاد}.

** أَفَمَن يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوَءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة} ويفزع فيقال له ولأمثاله من الظالمين {ذوقوا ما كنتم تكسبون} كمن يأتي آمناً يوم القيامة كما قال عز وجل: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ؟} وقال جل وعلا: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر} وقال تبارك وتعالى: {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة} واكتفى في هذه الاَية بأحد القسمين عن الاَخر. كقول الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضاًأريد الخير أيهما يليني
يعني الخير أو الشر. وقوله جلت عظمته: {كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} يعني القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق, وقوله جل وعلا: {فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدني} أي بما أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين بهم, فليحذر المخاطبون من ذلك فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم والذي أعده الله جل جلاله لهم في الاَخرة من العذاب الشديد أعظم مما أصابهم في الدنيا ولهذا قال عز وجل: {ولعذاب الاَخرة أكبر لو كانوا يعلمون}.

** وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
يقول تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذه القرآن من كل مثل} أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال {لعلهم يتذكرون} فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم} أي تعلمونه من أنفسكم, وقال عز وجل: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وقوله جل وعلا: {قرآناً عربياً غير ذي عوج} أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس بل هو بيان ووضوح وبرهان, وإنما جعله الله تعالى كذلك, وأنزله بذلك {لعلهم يتقون} أي يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد. ثم قال: {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون} أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم {ورجلاً سلم} أي سالماً {لرجل} أي خالصاً لا يملكه أحد غيره {هل يستويان مثلاً ؟} أي لا يستوي هذا وهذا. كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ؟ فأين هذا من هذا ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد: هذه الاَية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص, ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال: {الحمد لله} أي على إقامة الحجة عليهم {بل أكثرهم لا يعلمون} أي فلهذا يشركون بالله. وقوله تبارك وتعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} هذه الاَية من الاَيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تحقق الناس موته مع قوله عز وجل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} ومعنى هذه الاَية أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الاَخرة وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل فيفصل بينكم ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم, فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين. ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين. ثم إن هذه الاَية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين وذكر الخصومة بينهم في الدار الاَخرة فإنها شاملة لكل المتنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الاَخرة.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن محمد بن عمرو عن أبي حاطب ـ يعني يحيى بن عبد الرحمن ـ عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال لما نزلت {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال الزبير رضي الله عنه: يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال رضي الله عنه: إن الأمر إذاً لشديد: وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان وعنده زيادة, ولما نزلت {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أي نعيم نسأل عنه وإنما نعيمنا الأسودان: التمر والماء, قال صلى الله عليه وسلم: «أما إن ذلك سيكون» وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان به وقال الترمذي: حسن وقال أحمد أيضاً: حدثنا ابن نمير حدثنا محمد ـ يعني ابن عمرو ـ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» قال الزبير رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد, ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به وقال حسن صحيح وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي عياش عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الخصمين يوم القيامة جاران» تفرد به أحمد وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا» تفرد به أحمد رحمه الله. وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان فقال: «أتدري فيم تنتطحان يا أبا ذر ؟» قلت: لا قال صلى الله عليه وسلم: «ولكن الله يدري وسيحكم بينهما» وقال الحافظ أبو بكر)البزار حدثنا سهل بن محمد حدثنا حيان بن أغلب حدثنا أبي حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلحون عليه فيقال له سد ركناً من أركان جهنم» ثم قال الأغلب بن تميم ليس بالحافظ. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} يقول: يخاصم الصادق الكاذب, والمظلوم الظالم, والمهتدي الضال, والضعيف المستكبر, وقد روى ابن منده في كتاب الروح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد فتقول الروح للجسد أنت فعلت ويقول الجسد للروح أنتِ أمرت وأنت سولت فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما فيقول لهما إنّ مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والاَخر ضرير دخلا بستاناً فقال المقعد للضرير إني أرى ههنا ثماراً ولكن لا أصل إليها فقال له الضرير اركبني فتناولها فركبه فتناولها فأيهما المعتدي ؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتما على أنفسكما, يعني أن الجسد للروح كالمطية وهي راكبه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا جعفر بن أحمد بن عوسجة حدثنا ضرار حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا منصور بن سلمة حدثنا القمي ـ يعني يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الاَية وما نعلم في أي شيء نزلت {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال قلنا من نخاصم ؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة فمن نخاصم ؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هذا الذي وعدنا ربنا عز وجل نختصم فيه, ورواه النسائي عن محمد بن عامر عن منصور بن سلمة به, وقال أبو العالية في قوله تبارك وتعالى: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال: يعني أهل القبلة, وقال ابن زيد: يعني أهل الإسلام وأهل الكفر, وقد قدمنا أن الصحيح العموم والله سبحانه وتعالى أعلم.